الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: شرح العقيدة الواسطية (نسخة منقحة)
فهذه الصفات نثبتها لأن العقل دل عليها وبقية الصفات ما دل عليها العقل، فنثبت ما دل عليه العقل، وننكر ما لم يدل عليه العقل وهؤلاء هم الأشاعرة، آمنوا بالبعض، وأنكروا البعض.فهذه أقسام التعطيل في الأسماء والصفات وكلها متفرعة من بدعة الجهم، «ومن سن في الإسلام سنة سيئة، فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة».فالحاصل أنكم أيها الإخوة لو طالعتم في كتب القوم التي تعتني بجمع أقاويل الناس في هذا الأمر، لرأيتم العجب العجاب، الذي تقولون: كيف يتفوه عاقل- فضلًا عن مؤمن- بمثل هذا الكلام؟! ولكن من لم يجعل الله له نورًا، فما له من نور! الذي أعمى الله بصيرته كالذي أعمى الله بصره، فكما أن أعمى البصر لو وقف أمام الشمس التي تكسر نور البصر لم يرها، فكذلك من أعمى الله بصيرته لو وقف أمام أنوار الحق ما رآها والعياذ بالله.ولهذا ينبغي لنا دائمًا أن نسأل الله تعالى الثبات على الأمر، وأن لا يزيغ قلوبنا بعد إذ هدانا لأن الأمر خطير، والشيطان يدخل على ابن آدم من كل صوب ومن كل وجه ويشككه في عقيدته وفي دينه وفي كتاب الله وسنة رسوله فهذه في الحقيقة البدع التي انتشرت في الأمة الإسلامية.ولكن ولله الحمد ما ابتدع أحد بدعة، إلا قيض الله له بمنه وكرمه من يبين هذه البدعة ويدحضها بالحق وهذا من تمام مدلول قول الله تبارك وتعالى: {إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون} [الحجر: 9]، هذا من حفظ الله لهذا الذكر، وهذا أيضًا هو مقتضى حكمة الله عز وجل، لأن الله تعالى جعل محمدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خاتم النبيين، والرسالة لابد أن تبقى في الأرض، وإلا لكان للناس حجة على الله وإذا كانت الرسالة لابد أن تبقى في الأرض، لزم أن يقيض الله عز وجل بمقتضى حكمته عند كل بدعة من يبينها ويكشف عورها، وهذا هو الحاصل، ولهذا أقول لكم دائمًا: احرصوا على العلم، لأننا في هذا البلد في مستقبل إذا لم نتسلح بالعلم المبني على الكتاب والسنة، فيوشك أن يحل بنا ما حل في غيرنا من البلاد الإسلامية، وهذا البلد الآن هو الذي يركز عليه أعداء الإسلام ويسلطون عليه سهامهم، من أجل أن يضلوا أهلها، فذلك تسلحوا بالعلم، حتى تكونوا على بينة من أمر دينكم وحتى تكونوا مجاهدين بألسنتكم وأقلامكم لأعداء الله سبحانه وتعالى.وكل هذه البدع انتشرت بعد الصحابة، فالصحابة رضي الله عنهم لم يكونوا يبحثون في هذه الأمور، لأنهم يتلقون الكتاب والسنة على ظاهرهما وعلى ما تقتضيه الفطرة، والفطرة السليمة سليمة، لكن أتى هؤلاء المبتدعون، فابتدعوا في دين الله تعالى ما ابتدعوا، إما لقلة علمهم، أو لقصور فهمهم، أو لسوء قصدهم، فأفسدوا الدنيا بهذه البدع التي ابتدعوها، ولكن كما قلنا: إن الله تعالى بحكمته وحمده ومنته وفضله ما من بدعة خرجت إلا قيض الله لها من يدحضها ويبينها.ومن جملة الذين بينوا البدع وقاموا قيامًا تامًا بدحضها شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، وأسأل الله لي ولكم أن يجمعنا في جنات النعيم.هذا الرجل الذي نفع الله بما آتاه من فضله ومن على الأمة بمثله ألف هذه (العقيدة) كما قلت إجابة لطلب أحد قضاة واسط الذي شكا إليه ما كان الناس عليه من البدع وطلب منه أن يؤلف هذه (العقيدة) فألفها.بسم الله (1)....................................................................(1) البداءة بالبسملة هي شأن جميع المؤلفين، اقتداء بكتاب الله، حيث أنزل البسملة في ابتداء كل سورة واستنادًا إلى سنة الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.وإعراب البسملة ومعناها تكلم فيه الناس كثيرًا، وفي متعلقها، وأحسن ما يقال في ذلك: أنها متعلقة بفعل محذوف متأخر مناسب للمقام، فإذا قدمتها بين يدي الأكل، فيكون التقدير: بسم الله آكل، وبين يدي القراءة يكون التقدير: بسم الله اقرأ.نقدره فعلًا، لأن الأصل في العمل الأفعال لا الأسماء، ولهذا كانت الأفعال تعمل بلا شرط، والأسماء لا تعمل إلا بشرط، لأن العمل أصل في الأفعال تعمل بلا شرط، والأسماء، ولهذا كانت الأفعال تعمل بلا شرط، والأسماء لا تعمل إلا بشرط، لأن العمل أصل في الأفعال، فرع في الأسماء.ونقدره متأخرًا لفائدتين:الأولى: الحصر، لأن تقديم المعمول يفيد الحصر، فيكون: باسم الله أقرأ، بمنزلة: لا أقرأ إلا باسم الله.الثانية: تيمنًا بالبداءة باسم الله سبحانه وتعالى.ونقدره خاصًا، لأن الخاص أدل على المقصود من العام، إذ من الممكن أن أقول: التقدير: باسم الله أبتدئ لكن (باسم الله أبتدئ) لا تدل على تعيين المقصود، لكن (باسم الله أقرأ) خاص، والخاص أدل على المعنى من العام.* (الله) علم على نفس الله عز وجل، ولا يسمى به غيره ومعناه: المألوه، أي: المعبود محبة وتعظيمًا وهو مشتق على القول الراجح لقوله تعالى: {وهو الله في السموات وفي الأرض يعلم سركم وجهركم} [الأنعام: 3]، فإن: {في السموات} متعلق بلفظ الجلالة، يعني: وهو المألوه في السموات وفي الأرض.الرحمن (1) الرحيم (2)... الحمد لله الذي أرسل رسوله (3).....................(1) * (الرحمن)، فهو ذو الرحمة الواسعة، لأن (فعلان) في اللغة العربية تدل على السعة والامتلاء، كما يقال: رجل غضبان: إذا امتلأ غضبًا.(2) (الرحيم): اسم يدل على الفعل، لأنه فعيل بمعنى فاعل فهو دال على الفعل.فيجتمع من (الرحمن الرحيم): أن رحمة الله واسعة وأنها واصلة إلى الخلق. وهذا هو ما أومأ إليه بعضهم بقوله: الرحمن رحمة عامة والرحيم رحمة خاصة بالمؤمنين، ولما كانت رحمة الله للكافر رحمة خاصة في الدنيا فقط فكأنها لا رحمة لهم، لأنهم في الآخرة يقول تعالى لهم إذا سألوا الله أن يخرجهم من النار وتوسلوا إلى الله تعالى بربوبيته واعترافهم على أنفسهم: {ربنا أخرجنا منها فإن عدنا فإنا ظالمون} [المؤمنون: 107]، فلا تدركهم الرحمة، بل يدركهم العدل، فيقول الله عز وجل لهم: {اخسئوا فيها ولا تكلمون} [المؤمنون: 108].(3) * الله تعالى يحمد على كماله عز وجل وعلى إنعامه، فنحن نحمد الله عز وجل لأنه كامل الصفات من كل وجه، ونحمده أيضًا لأنه كامل الأنعام والإحسان: {وما بكم من نعمة فمن الله ثم إذا مسكم الضر فإليه تجأرون} [النحل: 53]، وأكبر نعمة أنعم الله بها على الخلق إرسال الرسل الذي به هداية الخلق، ولهذا يقول المؤلف (الحمد لله الذي أرسل رسول رسوله بالهدى ودين الحق).(2) ودين الرسول هنا الجنس، فإن جميع الرسل أرسلوا بالهدى ودين الحق، ولكن الذي أكمل الله به الرسالة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فإنه قد ختم الله به الأنبياء، وتم به البناء، كما وصف محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نفسه بالنسبة للرسل، كرجل بنى قصرًا وأتمه، إلا موضع لبنة، فكان الناس يأتون إلى هذا القصر ويتعجبون منه، إلا موضع هذه اللبنة، يقول: «فأنا اللبنة، وأنا خاتم النبيين»، عليه الصلاة والسلام.بالهدى (1) ودين الحق (2) ليظهره على الدين كله (3)................................(1) (بالهدى): الباء هنا للمصاحبة والهدى هو العلم النافع ويحتمل أن تكون الباء للتعدية، أي: إن المرسل به هو الهدى ودين الحق.(2) (ودين الحق) هو العمل الصالح، لأن الدين هو العمل أو الجزاء على العمل، فمن إطلاقه على العمل: قوله تعالى: {إن الدين عند الله الإسلام} [آل عمران: 19]، ومن إطلاقه على الجزاء قوله تعالى: {وما أدراك ما يوم الدين} [الانفطار: 17]. والحق ضد الباطل، وهو- أي الحق- المتضمن لجلب المصالح ودرء المفاسد في الأحكام والأخبار.(3) (ليظهره على الدين كله): اللام للتعليل ومعنى (ليظهره)، أي: يعليه، لأن الظهور بمعنى العلو، ومنه: ظهر الدابة أعلاها ومنه: ظهر الأرض سطحها، كما قال تعالى: {ولو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا ما ترك على ظهرها من دابة} [فاطر: 45].والهاء في (يظهره) هل هو عائد على الرسول أو على الدين؟ إن كان عائدًا على (دين الحق)، فكل من قاتل لدين الحق سيكون هو العالي. لأن الله يقول: (ليظهره)، يظهر هذا الدين على الدين كله، وعلى مالا دين له فيظهره عليهم من باب أولى، لأمن لا يدين أخبث ممن يدين بباطل، فإذا: كل الأديان التي يزعم أهلها أنهم على حق سيكون دين الإسلام عليه ظاهرًا، ومن سواهم من باب أولى.وإن كان عائدًا إلى الرسول عليه الصلاة والسلام، فإنما يظهر الله رسوله لأن معه دين الحق.وعلى كلا التقديرين، فإن من تمسك بهذا الدين الحق، فهو الظاهر العالي، ومن ابتغى العزة في غيره، فقد ابتغى الذل، لأنه لا ظهور ولا عزة ولا كرامة إلا بالدين الحق، ولهذا أنا أدعوكم معشر الإخوة إلى التمسك بدين الله ظاهرًا أو باطنًا في العبادة والسلوك والأخلاق، وفي الدعوة إليه، حتى تقوم الملة وتستقيم الأمة.وكفى بالله شهيدًا (1)..............................................................(1) قوله (وكفى بالله شهيدًا) يقول أهل اللغة: إن الباء هنا زائدة، لتحسين اللفظ والمبالغة في الكفاية، وأصلها: (وكفى الله).و: (شهيدًا): تمييز محول عن الفاعل لأن أصلها (وكفت شهادة الله). المؤلف جاء بالآية؟ ولو قال قائل: ما مناسبة (كفى بالله شهيدًا)، لقوله: (ليظهره على الدين كله)؟قيل: المناسبة ظاهرة، لأن هذا النبي عليه الصلاة والسلام جاء يدعو الناس ويقول: «من أطاعني دخل الجنة، ومن عصاني دخل النار». ويقول بلسان الحال: من أطاعني سالمته، ومن عصاني حاربته ويحارب الناس بهذا الدين، ويستبيح دماءهم وأموالهم ونساءهم وذريتهم، وهو في ذلك منصور مؤزر غالب غير مغلوب، فهذا التمكين له في الأرض، أي تمكين الله لرسوله في الأرض: شهادة من الله عز وجل فعلية بأنه صادق وأن دينه حق، لأن كل من افترى على الله كذبًا فماله الخذلان والزوال والعدم، وانظر إلى الذين ادعوا النبوة ماذا كان مالهم؟ أن نسوا وأهلكوا، كمسيلمة الكذاب، والأسود العنسي.... وغيرهما ممن ادعوا النبوة، لهم تلاشوا وبان بطلان قولهم وحرموا الصواب والسداد لكن هذا النبي محمدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على العكس دعوته إلى الآن والحمد لله باقية، ونسأل الله أن يثبتنا وإياكم عليها، دعوته إلى الآن باقية وإلى أن تقوم الساعة ثابتة راسخة، يستباح بدعوته إلى اليوم دماء من ناوأها من الكفار وأموالهم، وتسبى نساؤهم وذريتهم، هذه الشهادة فعلية، ما أخذه الله ولا فضحه ولا كذبه، ولهذا جاءت بعد قوله: {ليظهره على الدين كله}.وأشهد (1) أن لا إله إلا الله (2)، وحده (3)، لا شريك له (4)، إقرارًا به (5).(1) (أشهد)، بمعنى: أقر بقلبي ناطقًا بلساني، لأن الشهادة نطق وإخبار عما في القلب، فأنت عند القاضي تشهد بحق فلان على فلان، تشهد باللسان المعبر عما في القلب واختيرت الشهادة دون الإقرار، لأن الشهادة أصلها من شهود الشيء، أي: حضوره ورؤيته، فكأن هذا المخبر عما في قلبه الناطق بلسانه، كأنه يشاهد الأمر بعينه.(2) (لا إله إلا الله)، أي: لا معبود حق إلا الله، وعلى هذا يكون خبر لا محذوفًا، ولفظ الجلالة بدلًا منه.(3) (وحده) هي من حيث المعنى توكيد للإثبات.(4) (لا شريك له): توكيد للنفي.(5) (إقرارًا به): (إقرارًا) هذه مصدر، وإن شئت، فقل: إنه مفعول مطلق، لأنه مصدر معنوي لقوله: (أشهد)، وأهل النحو يقولون: إذا كان المصدر بمعنى الفعل دون حروفه، فهو مصدر معنوي، أو مفعول مطلق، وإذا كان بمعناه وحروفه، فهو مصدر لفظي فـ: قمت قيامًا: مصدر لفظي، و: قمت وقوفًا: مصدر معنوي، و: جلست جلوسًا: لفظي، و: جلست قعودًا: معنوي.وتوحيدًا (1) وأشهد (2) أن محمدًا عبده (3).........................................(1) (وتوحيدًا) مصدر مؤكد لقوله: (لا إله إلا الله).(2) نقول في (أشهد) ما قلنا في (أشهد) الأولى.(3) محمد: هو ابن عبد الله بن عبد المطلب القرشي الهاشمي الذي هو من سلالة إسماعيل بن إبراهيم، أشرف الناس نسبًا، عليه الصلاة والسلام.هذا النبي الكريم عبد الله ورسوله، وهو أعبد الناس لله، وأشدهم تحقيقًا لعبادته، كان عليه الصلاة والسلام يقوم في الليل حتى تتورم قدماه ويقال له: كيف تصنع هذا وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ فيقول: «أفلا أكون عبدًا شكورًا؟».لأن الله تعالى أثنى على العبد الشكور حتى قال عن نوح: {إنه كان عبدًا شكورًا}.لأن الله تعالى أثنى على العبد الشكور حين قال عن نوح: {إنه كان عبدًا شكورًا} [الإسراء: 3]، فأراد النبي عليه الصلاة والسلام أن يصل إلى هذه الغاية، وأن يعبد الله تعالى حق عبادته، ولهذا كان أتقى الناس، وأخشى الناس لله، وأشدهم رغبة فيما عند الله تعالى، فهو عبد لله، ومقتضى عبوديته أنه لا يملك لنفسه ولا لغيره نفعًا ولا ضرًا وليس له حق في الربوبية إطلاقًا بل هو عبد محتاج إلى الله مفتقر له يسأله ويدعوه ويرجوه ويخافه، بل إن الله أمره أن يعلن وأن يبلغ بلاغًا خاصًا بأنه لا يملك شيئًا من هذه الأمور فقال: {قل لا أملك لنفسي نفعًا ولا ضرًا إلا ما شاء الله ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسني السوء} [الأعراف: 188] وأمره أن يقول: {قل لا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول لكم إني ملك إن أتبع إلا ما يوحي إلى} [الأنعام: 50] وأمره أن يقول: {قل إني لا أملك لكم ضرا ولا رشدا قل إني لن يجيرني من الله أحد ولن أجد من دونه ملتحدًا إلا بلاغا} [الجن: 21- 23] {إلا} استثناء منقطع، أي: لكن أبلغ بلاغًا من الله ورسالاته.فالحاصل أن محمدًا صلوات الله وسلامه عليه عبد لله ومقتضى هذه العبودية أنه لا حق له في شيء من شؤون الربوبية إطلاقًا.وإذا كان محمد رسول الله صلوات الله وسلامه عليه بهذه المثابة، فما بالك بمن دونه من عباد الله؟! فإنهم لا يملكون لأنفسهم نفعًا ولا ضرًا، ولا لغيرهم أبدًا وبهذا يتبين سفه أولئك القوم الذين يدعون من يدعونهم أولياء من دون الله عز وجل.ورسوله (1).........................................................................(1) قوله: (ورسوله): هذا أيضًا لا يكون لأحد بعد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لأنه خاتم النبيين، فهو رسول الله الذي بلغ مكانًا لم يبلغه أحد من البشر، بل ولا من الملائكة فيما نعلم اللهم إلا حملة العرش، وصل إلى ما فوق السماء السابعة، وصل إلى موضع سمع فيه صريف أقلام القضاء الذي يقضي به الله عز وجل في خلقه، ما وصل أحد فيما نعلم إلى هذا المستوى، وكلمه الله عز وجل بدون واسطة، وأرسله إلى الخلق كافة وأيده بالآيات العظيمة التي لم تكن لأحد من البشر أو الرسل قبله، وهو هذا القرآن العظيم، فإن هذا القرآن لا نظير له في آيات الأنبياء السابقين أبدًا، ولهذا قال الله تعالى: {وقالوا لولا أنزل عليه آيات من ربه قل إنما الآيات عند الله وإنما أنا نذير مبين أو لم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم} [العنكبوت: 50- 51]، هذا يكفي عن كل شيء، ولكن لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد، أما المعرض، فسيقول كما قال من سبقه: هذا أساطير الأولين!الحاصل أن محمدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رسول الله وخاتم النبيين، ختم الله به النبوة والرسالة أيضًا، لأنه إذا انتفت النبوة، وهي أعم من الرسالة، انتفت الرسالة التي هي أخص، لأن انتفاء الأعم يستلزم انتفاء الأخص، فرسول الله عليه الصلاة والسلام هو خاتم النبيين.صلى الله عليه (1) وعلى آله وصحبه (2).............................................(1) معنى (صلى الله عليه): أحسن ما قيل فيه ما قاله أبو العالية رحمه الله، قال: (صلاة الله على رسوله: ثناؤه عليه في الملأ الأعلى).وأما من فسر صلاة الله عليه بالرحمة، فقوله ضعيف، لأن الرحمة تكون لكل أحد، ولهذا أجمع العلماء على أنك يجوز أن تقول: فلان رحمه الله، واختلفوا، هل يجوز أن تقولك فلان صلى الله عليه؟ وهذا يدل على أن الصلاة غير الرحمة. وأيضًا، فقد قال الله تعالى: {أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة} [البقرة: 157]، والعطف يقتضي المغايرة، إذًا، فالصلاة أخص من الرحمة، فصلاة الله على رسوله ثناؤه عليه في الملأ الأعلى.(2) قوله: (وعلى آله)، و: (آله) هنا: أتباعه على دينه هذا إذا ذكرت الآل وحدها أو مع الصحب، فإنها تكون بمعنى أتباعه على دينه منذ بعث إلى يوم القيامة ويدل على أن الآل بمعنى الاتباع على الدين قوله تعالى في آل فرعون: {النار يعرضون عليها غدوا وعشيا ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب} [غافر: 46]، أي: أتباعه على دينه.أما إذا قرنت بالأتباع، فقيل: آله وأتباعه، فالآل هم المؤمنون من آل البيت، أي: بيت الرسول عليه الصلاة والسلام.وشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله لم يذكر الأتباع هنا، قال: (آله وصحبه)، فنقول: آله هم أتباعه على دينه، وصحبه كل من اجتمع بالنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مؤمنًا به ومات على ذلك.وعطف الصحب هنا على الآل من باب عطف الخاص على العام، لأن الصحبة أخص من مطلق الاتباع.وسلم (1) تسليمًا مزيدًا (2)...........................................................(1) قوله: (وسلم تسليمًا مزيدًا): (سلم) فيها السلامة من الآفات، وفي الصلاة حصول الخيرات، فجمع المؤلف في هذه الصيغة بين سؤال الله تعالى أن يحقق الخيرات، فجمع المؤلف في هذه الصيغة بين سؤال الله تعالى أن يحقق لنبيه الخيرات- وأخصها: الثناء عليه في الملأ الأعلى- وأن يزيد عنه الآفات، وكذلك من اتبعه.والجملة في قوله: (صلى) و (سلم) خبرية لفظًا طلبية معنى، لأن المراد بها الدعاء.(2) قوله: (مزيدًا)، بمعنى: زائدًا أو زيادة، والمراد تسليمًا زائدًا على الصلاة، فيكون دعاء آخر بالسلام بعد الصلاة.والرسول عند أهل العلم: (من أوحي إليه بشرع وأمر بتبليغه).وقد نبئ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بـ: {اقرأ} وأرسل بالمدثر، فبقوله تعالى: {اقرأ باسم ربك الذي خلق}. إلى قوله: {علم الإنسان ما لم يعلم} [العلق: 1- 5] كان نبيًّا، وبقوله: {يا أيها المدثر قم فأنذر} [المدثر: 1- 2] كان رسولا عليه الصلاة والسلام.أما بعد (1): فهذا (2).(1) (أما بعد): (أما) هذه نائبة عن اسم شرط وفعله، التقدير: مهما يكن من شيء، قال ابن مالك: فقولهم: أما بعد: التقدير: مهما يكن من شيء بعد هذا، فهذا.وعليه، فالفاء هنا رابطة للجواب والجملة بعدها في محل جزم جواب الشرط، ويحتمل عندي أن تكون: (أما بعد، فهذا)، أي أن (أما) حرف شرط وتفصيل أو حرف شرط فقط مجرد عن التفصيل، والتقدير: أما بعد ذكر هذا، فأنا أذكر كذا وكذا. ولا حاجة أن نقدر فعل شرط، ونقول: إن (أما) حرف ناب مناب الجملة.(2) (فهذا): الإشارة لابد أن تكون إلى شيء موجود، أنا عندما أقول: هذا، فأنا أشير إلى شيء محسوس ظاهر، وهنا المؤلف كتب الخطبة قبل الكتاب وقبل أن يبرز الكتاب لعالم الشاهد، فكيف ذلك؟!أقول: إن العلماء يقولون: إن كان المؤلف كتب الكتاب ثم كتب المقدمة والخطبة، فالمشار إليه موجود ومحسوس، ولا فيه إشكال، وإن لم يكن كتبه، فإن المؤلف يشير إلى ما قام في ذهنه عن المعاني التي سيكتبها في هذا الكتاب، وعندي فيه وجه ثالث، وهو أن المؤلف قال هذا باعتبار حال المخاطب، والمخاطب لم يخاطب بذلك إلا بعد أن برز الكتاب وصدر، فكأنه يقول: (فهذا الذي بين يديك كذا وكذا).هذه إذًا ثلاثة أوجه.اعتقاد (1) الفرقة (2) الناجية (3).........................................................(3) (الناجية) افتعال من العقد وهو الربط والشد هذا من حيث التصريف اللغوي، وأما في الاصطلاح عندهم، فهو حكم الذهن الجازم، يقال: اعتقدت كذا، يعنى: جزمت به في قلبي، فهو حكم الذهن الجازم، فإن طابق الواقع، فصحيح، وإن خالف الواقع، ففاسد، فاعتقادنا أن الله إله واحد صحيح، واعتقاد النصارى أن الله ثالث ثلاثة باطل، لأنه مخالف للواقع ووجه ارتباطه بالمعنى اللغوي ظاهر، لأن هذا الذي حكم في قلبه على شيء ما كأنه عقده عليه وشده عليه بحيث لا يتفلت منه.(2) (الفرقة) بكسر الفاء، بمعنى: الطائفة، قال الله تعالى: {فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة} [التوبة: 122]، وأما الفرقة بالضم، فهي مأخوذة من الافتراق.(3) (الناجية): اسم فاعل من نجا، إذا سلم، ناجية في الدنيا من البدع سالمة منها وناجية في الآخرة من النار.ووجه ذلك أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار إلا واحدة» قالوا: من هي يا رسول الله؟ قال: «من كان على مثل ما أنا عليه وأصحابي».هذا الحديث يبين لنا معنى (الناجية)، فمن كان على مثل ما عليه النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأصحابه، فهو ناج من البدع. و: «كلها في النار إلا واحدة»: إذا هي ناجية من النار، فالنجاة هنا من البدع في الدنيا، ومن النار في الآخرة.المنصورة(1) إلى قيام الساعة(2)..................................................(1) (المنصورة) عبر المؤلف بذلك موافقة للحديث، حيث قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين»، والظهور الانتصار، لقوله تعالى: {فأيدنا الذين آمنوا على عدوهم فأصبحوا ظاهرين} [الصف: 14]، والذي ينصرها هو الله وملائكته والمؤمنون، فهي منصورة إلى قيام الساعة، منصورة من الرب عز وجل، ومن الملائكة، ومن عباده المؤمنين، حتى قد ينصر الإنسان من الجن، ينصره الجن ويرهبون عدوه.(2) (إلى قيام الساعة)، أي: إلى يوم القيامة، فهي منصورة إلى قيام الساعة.وهنا يرد إشكال، وهو أن الرسول عليه الصلاة والسلام أخبر بأن الساعة تقوم على شرار الخلق، وأنه لا تقوم حتى لا يقال: الله الله، فكيف تجمع بين هذا وبين قوله: «إلى قيام الساعة»؟والجواب: أن يقال: إن المراد: إلى قرب قيام الساعة، لقوله في الحديث: «حتى يأتي أمر الله»، أو: إلى قيام الساعة، أي: ساعتهم، وهو موتهم، لأن من مات فقد قامت قيامته، لكن الأول أقرب، فهم منصورون إلى قرب قيام الساعة، وإنما لجأنا إلى هذا التأويل لدليل، والتأويل بدليل جائز، لأن الكل من عند الله.أهل السنة والجماعة (1)..............................................................(1) (أهل السنة والجماعة): أضافهم إلى السنة، لأنهم متمسكون بها، والجماعة، لأنهم مجتمعون عليها.فإن قلت: كيف يقول: (أهل السنة والجماعة)، لأنهم جماعة، فكيف يضاف الشيء إلى نفسه؟!فالجواب: أن الأصل أن كلمة الجماعة بمعنى الاجتماع، فهي اسم مصدر، هذا في الأصل، ثم نقلت من هذا الأصل إلى القوم المجتمعين، وعليه، فيكون معنى أهل السنة والجماعة، أي: أهل السنة والاجتماع، سموا أهل السنة، لأنهم متمسكون بها، لأنهم مجتمعون عليها.ولهذا لم تفترق هذه الفرقة كما افترق أهلا لبدع، نجد أهل البدع، كالجهمية متفرقين، والمعتزلة متفرقين، والروافض متفرقين، وغيرهم من أهل التعطيل متفرقين، لكن هذه الفرقة مجتمعة على الحق، وإن كان قد يحصل بينهم خلاف، لكنه خلاف لا يضر، وهو خلاف لا يضلل أحدهم الآخر به، أي: أن صدورهم تتسع له، وإلا، فقد اختلفوا في أشياء مما يتعلق بالعقيدة، مثل: هل رأى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ربه بعينه أم لم يره؟ ومثله: هل عذاب القبر على البدن والرواح أو الروح فقط؟ ومثل بعض الأمور يختلفون فيها، لكنها مسائل تعد فرعية بالنسبة للأصول، وليست من الأصول. ثم هم مع ذلك إذا اختلفوا، لا يضلل بعضهم بعضًا، بخلاف أهل البدع.إذًا فهم مجتمعون على السنة، فهم أهل السنة والجماعة.وعلم من كلام المؤلف رحمه الله أنه لا يدخل فيهم من خالفهم في طريقتهم، فالأشاعرة مثلا والماتريدية لا يعدون من أهل السنة والجماعة في هذا الباب، لأنهم مخالفون لما كان عليه النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه في إجراء صفات الله سبحانه وتعالى على حقيقتها، ولهذا يخطئ من يقول: إن أهل السنة والجماعة ثالثة: سلفيون، وأشعريون، وماتريديون، فهذا خطأ، نقول: كيف يمكن الجميع أهل سنة وهم مختلفون؟! فماذا بعد الحق إلا الضلال؟! وكيف يكونون أهل سنة وكل واحد يرد على الآخر؟! هذا لا يمكن، إلا إذا أمكن الجمع بين الضدين، فنعم، وإلا، فلا شك أن أحدهم وحده هو صاحب السنة، فمن هو؟ الأشعرية، أم الماتريدية، أم السلفية؟ نقول: من وافق السنة، فهو صاحب السنة ومن خالف السنة، فليس صاحب سنة، فنحن نقول: السلف هم أهل السنة والجماعة، ولا يصدق الوصف على غيرهم أبدًا والكلمات تعتبر معانيها لننظر كيف نسمى من خالف السنة أهل سنة؟ لا يمكن وكيف يمكن أن نقول عن ثلاث طوائف مختلفة: إنهم مجتمعون؟ فأين الاجتماع؟ فأهل السنة والجماعة هم السلف معتقدًا، حتى المتأخر إلى يوم القيامة إذا كان على طريقة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه، فإنه سلفي.
|